العرب والعمارة و"عقدة الغرب" د. وليد أحمد السيد

 
العرب والعمارة و"عقدة الغرب"
د. وليد أحمد السيد
معماري وأكاديمي ومدير مركز دراسات العمارة الإسلامية بلندن
sayedw03@yahoo.co.uk


ثمة أزمة محزنة ومخزية مرت ولا تزال تمر بها الأمة العربية من محيطها إلى خليجها تتمثل في التبعية وما يمكن تعريفه "بعقدة الغرب". وتمر بالمرء خلال فترات من حياته العملية مجموعات من التجارب تتوالى تترى قد يلقي أو لا يلقي لها بالا. بيد أنني أقف بين فترة وأخرى على محطة من محطات الحياة المزدحمة ساهما مفكرا موليا ظهري للقطار لبرهة لأعيد ترتيب الأوراق ومراجعة الحسابات لإعادة التأكد من وجهة القطار رجاء المقاربة والتسديد. ومن هنا يطيب لي-مع ما يعتمل في القلب من مرارة وحزن للمضمون- أن أقدم هذه الخواطر بين يدي هذه السطور عجلى ومتعثرة أمام أزمة خطيرة تحتاج لأكثر من مجرد خطرات. فغاية ما ترنو اليه هذه السطور هو نقض خرافات وأوهام عششت وباضت وفرخت في عقول البعض- إن لم يكن الأغلبية- من العرب العاربة أو تلكم المستعربة, فيما يخص العلاقة مع الغرب والتبعية النكدة السمجة له.
د.وليد أحمد السيد
لندن


يحار المرء ويكاد يستعصي على الفهم ما يدور رحاه في كافة أرجاء الوطن العربي بعامة. هذه الدويلات والجزر والدول تسمها ثورة عمرانية غير مسبوقة لا يلحقها – أو لا ينبغي لها- أي من مظاهر الحضارة والثقافة الأخرى بحال. وتفاوت هذه الثورة العمرانية بيْن وجلي بين مختلف الأقطار العربية من المحيط الى الخليج كل بحسب متغيرات محلية وإقليمية سواء أكانت ديموغرافية طبيعية أم إقتصادية أم سياسية, بيد أنها في جلها يقسمها قاسم مشترك أعظم هو التبعية الغربية وعمى الإنبهار بكل ما غربي أو يدور في فلكه ويصدر عنه.

شاءت الأقدار أن استدعى ومنذ عامين ومن موقعي بلندن, من قبل بعض الجهات العربية المتنفذة والمسؤولة عن التنمية العمرانية في بعض وطننا العربي, كي أعمل كمستشار على أكثر من مشروع من مشاريع التطوير التخطيطي والعمراني في الشرق الأوسط والخليج العربي. وبحكم خبرتي العملية في مجال العمارة والتخطيط الحضري والتي تقارب العقدين من الزمان فقد أتاح هذا المنصب لي الفرصة للعمل والتنسيق مع أكثر من واحدة من الشركات الغربية التي تطل بنافذة "خبراتها" على شرقنا الأوسطي أو خليجنا العربي والتي تم تكليفها –لأسباب مجهولة آخرها الكفاءة- لتخطط مشاريع في غاية الأهمية الحضارية والثقافية محليا وإقليميا. وبدهيا, قد يفهم المرء, ويكون من المنطقي والمقبول أن تطلب الأمة من غيرها من الأمم ما لا تملك هي. فالمقايضة والتجارة وتبادل الصناعة أمر مقبول جدا وشائع عبر العصور. فاستيراد السيارات في بلد غير صناعي أمر مفهوم, وتظل السيارة,على أية حال, بعد الإستيراد بضاعة لا تدل على هوية محلية ولا متعلق حضاري. أما الحال في العمارة والتخطيط فمختلف تماما, إذ هي لا ترتبط فقط بمتعلقات الهوية والحضارة أثناء مرحلة تخليقها في رحم عملية التصميم المعقدة والمتشابكة مع العديد من الإختصاصات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية, إنما تمتد لتشمل سلوكيات وترسيخ قيم وعادات وتقاليد وأنماط حياة بعد تنفيذ هذه المشاريع. وقد يفهم المرء, جدلا, أن تطلب "العرب المستغربة" تصاميم غربية, تزيد في التغريب والإستغراب الثفافي والحضاري لعواصمنا العربية الآخذة بالحداثة بعيدا عن أي مضمون ثقافي أو حضاري, وهنا قد يكون مفهوما أن تتم الإستعانة بخبراء وشركات أوروبية لتصميم هذه العمائر الدخيلة. أما ما لم أفهمه فهو أن تطلب العرب من أوروبا وشركاتها تصاميم تتماشى مع التراث العربي الإسلامي, وهذا ما صادفته. ولعمر الحق إنني لأكاد أحار في موجة السعار التي قد أصابت بعض العرب فطلبوا من الغرب ما لا يملكون. فأنى لغربي أن يعيد تشكيل إحداثيات فكره ضمن ثفافة عربية لا يعي من أبجدياتها شيئا فيعيث في شوارعها وطرقاتها وبنيانها وأسس حضارتها ويعمل قلمه فيها يمينا وشمالا؟ وكيف يتأتى لأوروبي أن يصمم للعرب ما يحاكي حضارتهم البائدة في الأندلس وغرناطة؟ وهل عقمت أرحام أمهات العرب أن تلد من المعماريين العرب من يحقق تلك المطالب؟ وأين جهابذة العمارة وروادها من معماريي العرب المبدعين؟


وقد يحلو لمتشكك أو مدافع عن الغرب المتطور في مقابل الشرق المتخلف أن يستشهد بالنظام الغربي الذي لا يضاهيه نظام عربي في الإدارة و"البزنس" والإلتزام بالوقت والمواعيد, إلى غير ذلك من الهراء. ومن خبرتي العملية المتواضعة بين ثقافتين لسنوات عديدة يمكنني الجزم أن هذه مجرد أكذوبة أطلقها أحدهم يوما وصدقها وروجها للبلهاء فغدت قانونا مسلما به كشروق الشمس وغروبها, وكأن الخبرات المحلية إن توفرت لها الإمكانات وأغدق عليها معشار ما يغدق في الخارج لا يحسنها تداول "البزنس" أو تعاطيه على أصوله؟ أما مسألة التفوق الخبراتي والريادة فهي موضوع يقبل النقاش والدحض وبشدة, وهي أكذوبة روجها المسؤولون والجهات المتنفذة لغرض في نفس يعقوب. فكم من مشروع بالكيلومترات المربعة تم إرساؤه على مكاتب غربية, لا لسبب مفهوم أو منطق معلوم سوى أحد أمرين لا ثالث لهما: إما انبهار بالغرب "وعقدة نفسية" لدى صانعي القرار, وإما لقبض "سمسرات ورشاوى" بتوكيل المشروع لمكتب خارج البلد حيث يسهل التواطؤ وقبض العمولات وإتخام الحسابات البنكية في الخارج بعيدا عن أعين الرقابة والمساءلة اللصيقة في داخل البلد ومن وراء الكواليس. وهذه الأطروحة في العمولات والدسائس ونظرية المؤامرة– للأسف- ليست إفتراضات نظرية لا أصل لها, إنما تولدت لدي هذه القناعة تدريجيا وبعد التأمل في العديد من الشواهد والأحداث الواقعية والتي مررت بها شخصيا, وإليكم بعضها وفي التلميح ما يغني عن التصريح, إذ نحن فعلا في الزمن الذي تضيع فيه الأمانة ويندر الأمين, حتى يأتي زمان على الناس يقول أحدهم إن هناك في تلك القرية رجل أمين! (لشدة العجب وندرة الأمانة).


أخبرني أحد "الخبراء" الأجانب الذين التقيت بهم أنه قبل ثلاثين سنة ذهب للعمل في إحدى الدول العربية الشرق أوسطية. فاستقبله المحافظ ورئيس البلدية لدى وصوله. وكيف لا وهو الخبير الوافد المكرم. ويسرد لي هذا الخبير بحال السخرية من غباء هذين المسؤولين كيف أنهما أرادا ان ينهلا من معين علمه الجم الغزير. فبادره الأول بالسؤال: نريد شق طريق للمدينة فأي هذين المكانين أكثر مناسبة من هناك أم هناك؟ وأشار بيده لناحيتين مختلفتين عبر الجبال. ويتابع هذا الخبير سرد القصة فيقول لي: ولم أعلم ما أقول إذ لا علم لي بتخطيط المدن ولا معلومات لدي لتسند الإجابة, لكنني كنت مضطرا للإجابة فاخترت احد الطريقين كرأيي الشخصي. فما كان من رئيس البلدية إلا أن نظر للمحافظ نظرة المنتصر وقال له: أرأيت, تماما كما قلت لك! ويتابع هذا الخبير قصته لي فيقول: وركبت السيارة مغادرا للعاصمة وبعد أيام رأيت صورتي بالمجلة وخلفي المسؤولين تبدو عليهما علامات الزهو وكأن لسان حال أحدهما يقول للآخر: أرأيت, تماما كما قلت لك!


ولعل هذا الغربي قد بلغت به الأمانة أن يخبرني ببعض ما مر به من غباء, إنما الحال أن هناك الكثيرون ممن عاش وترعرع وما يزال على هذا الغباء وتلك التبعية الغربية المقيتة التي لا يدفعها شيء إلا انبهار وانخداع بنظام حياة غربية. نفس هذا "الخبير" تابع سرده لقصص يندى لها الجبين. فقد ساهم في تخطيط وتطوير وتوسعة الحرم المكي والحرم المدني بمكة والمدينة المنورة, ويعزو لنفسه الفضل في تحديد خطوط القبلة الدائرية وإقتراح خط ليزر أخضر لتحديد القبلة – والذي تم رفضه. ما أخبرني هذا الخبير بذلك إلا بعد أن رأى من قدرات بعض العرب على الإبداع على نحو لم يصادفه قبلا, إذ صادف قبلا مسؤولين وصانعي قرار ولم يصادف كفاءات وعقول ممن يزخر بهم وطننا العربي الشاسع والمغمورين تحت عمى الإنبهار بالغرب.


وقد وجدت هذه الشركات الأوروبية المزعومة التي تبتز ملايين الملايين من الأموال العربية المشاع لكل الشعوب والأمم, والتي هي حرام على بلابله حلال للطير من كل جنس, رأيت بعض هذه الشركات لا تعدو كونها بضعة أفراد لا يحسن بعضهم استعمال البريد الألكتروني بعد, فيما بعضهم الآخر لا يعدو علمه المعماري ما شاع في السبعينيات من عمارة النكبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.


وللسخرية المريرة, فهؤلاء العصابات من اللصوص التي تدعي الخبرة لا تنظر بكثير من الإحترام لزبائنها ومموليها من "العرب المستغربة". فقد انتقد أحدهم وعلى مسامعي الفوضى الفكرية والتي يعاني منها زبونه ومموله الشرق أوسطي الذي أغدق على مكتبه المشاريع والملايين. وكأن لسان حاله يتفضل عليه بتكرمه أن يعمل له وينهب الملايين منا! أما أحد "الخبراء" الأجانب الذين صادفتهم من صنف هؤلاء "النابغة", فلم يكمل تعليمه المعماري وطرد خارج الكلية بعد السنة الثالثة. وهذا الخبير "نصف المعماري" يعمل كمدير للشركة الإنجليزية ويقوم بزيارات مكوكية للخليج يقابل فيها العملاء والزبائن ليحصل, لا على مباني, إنما أنصاف مدن وكيلومترات مربعة!!! ولقد صادفته يوما يتحدث لمدير آخر من "الخبراء" الوافدين الينا, وتناهى الى مسامعي إشارته لإحد زبائنة من الخليج العربي واصفا إياه "بالبدين". هكذا ينظر أمثال هؤلاء للغباء العربي وهكذا يضحكون علينا في سرهم وفي علانيتهم. كل هذا وغيره والمخفي منه أعظم من مؤامرات تحاك في الخفاء مما يبقي عجلة السيادة الغربية سائرة على حساب مصالح الأمم والشعوب التي استودعت مسؤوليها أمانة, أضاعها بعضهم إلا من رحم ربي, فيما تضيع مقدرات الشعوب والأمم بدعوى النهضة والمعاصرة وتحت مظلة "عقدة الخواجا" والتبعية للغرب بتوظيف الشركات العالمية "الخبيرة". هذا على الأقل حال العمارة والعمران, ولا نريد التعميم, فلا ندري جزما ما هي الحال في بقية مظاهر الحياة والتمدن, بيد أن لسان حالنا يصرخ مدويا في الآفاق: أفيقي يا أمة العرب وإلا فلتعمهي في سباتك ورقدتك المهينة إلى يوم الدين!!!
Dr. EMAD HANI ISMAEEL
                 Ph.D. in Technologies for the Exploitation
                 of the Cultural Heritage .
                 Senior Lecturer in the Dept. of ArchitectureE-mail:        emadhanee@yahoo.com

                 College of Engineering , University of Mosul 
                 Mosul - Iraq .

                   emadhanee@gmail.com
                   http://emadhani.blogspot.com/
Tel :           +964 (0)770 164 93 74
 

تعليقات